رؤية لتقوية الدور الاجتماعي للأسرة

تُعد الأسرة النواة الأساسية في بناء المجتمع وأحد أهم مرتكزاته الحضارية والاجتماعية والثقافية، إذ تمثل الخلية الأولى التي تُغرس فيها القيم، وتُصقل من خلالها السلوكيات، وتنشأ عبرها الانتماءات والولاءات، لا سيما في المراحل المبكرة من حياة الإنسان. ومن هذا المنطلق، فإن الدور الاجتماعي للأسرة لا يمكن النظر إليه باعتباره هامشياً أو محدود التأثير، بل هو دور محوري ينعكس بشكل مباشر على استقرار المجتمع وتقدمه، أو على اضطرابه وتفككه. وفي ظل التحولات الاجتماعية والثقافية التي يشهدها العالم المعاصر، بات من الضروري تبني رؤية استراتيجية متكاملة لتقوية الدور الاجتماعي للأسرة، من خلال تفعيل مهامها وتعزيز مكانتها، وتطوير أدواتها التربوية والتوعوية بما ينسجم مع المتغيرات الحديثة دون التفريط في الثوابت.

أولاً: فهم الدور الاجتماعي للأسرة

الدور الاجتماعي للأسرة يتجاوز الجانب التربوي البحت، ليشمل أبعاداً متعددة تتداخل فيها الأدوار الاقتصادية، الثقافية، النفسية، والعاطفية، وصولاً إلى الدور القيمي الذي يُعد أساسياً في نقل المعايير الاجتماعية والضوابط السلوكية من جيل إلى آخر. فالأسرة تُمثل البيئة الأولى التي يتفاعل فيها الفرد مع الآخر، ويتعلم فيها قواعد التواصل والاحترام والتسامح والتعاون، كما تزرع فيه حب الوطن والانتماء للدين والثقافة.

وتتجلى أهمية هذا الدور من خلال مساهمة الأسرة في:

• بناء الشخصية المتوازنة للأفراد.

• تقوية النسيج الاجتماعي عبر العلاقات الأسرية الممتدة.

• حماية الأبناء من الانحرافات الفكرية والسلوكية.

• توفير الحصانة الأخلاقية ضد التحديات الثقافية الوافدة.

• دعم الاستقرار المجتمعي والحد من مظاهر التفكك الأسري.

ثانياً: التحديات التي تُضعف الدور الاجتماعي للأسرة

لم يعد بالإمكان إنكار حجم الضغوطات التي تواجه الأسرة في العصر الحديث، حيث تتعرض لهزات عنيفة نتيجة التغيرات السريعة في القيم المجتمعية، والضغوط الاقتصادية، والانفتاح الإعلامي والثقافي، فضلاً عن النزعة الفردية المتنامية التي باتت تضعف الروابط الأسرية التقليدية.

من أبرز هذه التحديات:

• التفكك الأسري: الناتج عن الطلاق أو الخلافات المزمنة بين الوالدين، مما يؤدي إلى بيئة غير مستقرة تؤثر سلباً على الأبناء.

• ضعف التواصل بين الأجيال: نتيجة الهوة الثقافية والتكنولوجية بين الآباء والأبناء.

• الضغوط الاقتصادية: التي تدفع أحد الأبوين أو كليهما للانشغال المفرط في العمل، ما يحدّ من التفاعل اليومي داخل الأسرة.

• الغزو الثقافي والإعلامي: عبر المنصات الرقمية التي قد تُروج لقيم دخيلة لا تتوافق مع الهوية الاجتماعية أو الدينية.

• ضعف التنشئة الاجتماعية: في بعض الأسر بسبب غياب القدوة أو الانشغال عن التربية الفاعلة.

ثالثاً: ركائز رؤية تقوية الدور الاجتماعي للأسرة

تستند رؤية تقوية الدور الاجتماعي للأسرة إلى مجموعة من الركائز التي يمكن البناء عليها في وضع سياسات ومبادرات عملية، وهي:

1. تعزيز الوعي الأسري

الوعي هو اللبنة الأولى في بناء أسرة قوية وفاعلة. ويشمل هذا الوعي إدراك الأهل لأهمية دورهم، ومسؤوليتهم التربوية والاجتماعية. ويمكن تعزيزه من خلال:

• تنظيم برامج تأهيل للوالدين تتناول أساليب التربية الحديثة.

• حملات إعلامية توعوية حول دور الأسرة في حماية القيم المجتمعية.

• إدخال مفاهيم التربية الأسرية في المناهج الدراسية.

2. دعم الأسرة اقتصادياً واجتماعياً

التمكين الاقتصادي للأسرة شرط أساسي لاستقرارها، إذ أن الضغوط المالية كثيراً ما تقود إلى مشكلات تربوية واجتماعية. ويمكن دعم الأسرة عبر:

• توفير برامج دعم مادي للأسر ذات الدخل المحدود.

• تسهيل الحصول على سكن ملائم.

• تمكين المرأة اقتصادياً بما يعزز دورها التشاركي في الأسرة والمجتمع.

3. تعزيز الحوار الأسري

الحوار هو الوسيلة المثلى لتقريب وجهات النظر وحل الخلافات وتعزيز الترابط. ويتحقق ذلك من خلال:

• تخصيص وقت يومي للتواصل بين أفراد الأسرة.

• تربية الأبناء على التعبير عن آرائهم بحرية واحترام.

• تدريب الوالدين على مهارات الإصغاء الفعال.

4. التمسك بالهوية الثقافية والدينية

تُعد القيم الدينية والثقافية الراسخة حائط صدّ أمام التغيرات السلبية، ومن هنا ينبغي:

• تعليم الأبناء تعاليم الدين والقيم الأخلاقية منذ الصغر.

• الانخراط في أنشطة تعزز الانتماء مثل المناسبات الدينية والوطنية.

• تصحيح المفاهيم المغلوطة التي قد تصل عبر وسائل الإعلام.

5. الاستفادة من التكنولوجيا في تعزيز الدور التربوي

بدلاً من النظر إلى التكنولوجيا كخصم، يمكن توظيفها كأداة داعمة للأسرة، من خلال:

• إنشاء منصات توعية أسرية إلكترونية.

• تقديم استشارات تربوية عبر الإنترنت.

• إنتاج محتوى رقمي موجه للأبناء يعزز القيم الاجتماعية.

رابعاً: البرامج المجتمعية الداعمة للأسرة

من المهم أن تشارك المؤسسات الرسمية والمدنية في دعم دور الأسرة من خلال برامج عملية ومستدامة. ويمكن توضيح ذلك في الجدول الآتي:

خامساً: المدرسة شريك في تعزيز الدور الاجتماعي للأسرة

لا يمكن فصل دور المدرسة عن الأسرة، فكلاهما يشكلان البيئة الأساسية التي يتشكل فيها وعي الطفل وشخصيته. والتكامل بين الأسرة والمدرسة يُعد ضرورة تربوية واجتماعية، ويمكن تحقيق هذا التكامل من خلال:

• إقامة لقاءات دورية بين أولياء الأمور والمعلمين.

• إشراك الأسرة في الأنشطة المدرسية والاجتماعية.

• تبادل التقارير التربوية التي توضح السلوك العام للطالب.

سادساً: الإعلام ودوره في دعم الأسرة

يلعب الإعلام دوراً محورياً في تشكيل الرأي العام وتوجيه السلوك المجتمعي، وبالتالي فإن دعم الأسرة إعلامياً يتطلب:

• إنتاج محتوى تلفزيوني وإذاعي يعزز القيم الأسرية.

• تخصيص برامج حوارية تتناول قضايا الأسرة وسبل تقويتها.

• مواجهة المحتوى الإعلامي الهدّام والتصدي له بالمحتوى البديل الهادف.

سابعاً: التشريعات والأنظمة الحامية للأسرة

من الأهمية بمكان أن تكون هناك مظلة قانونية تحمي الأسرة من كل ما قد يهدد استقرارها أو ينال من مكانتها، مثل:

• سن قوانين تحمي الأطفال من الإهمال والعنف الأسري.

• تعزيز التشريعات الداعمة لحقوق المرأة داخل الأسرة.

• تطوير قوانين تنظيم الطلاق والنفقة بما يحفظ حقوق الأبناء.

ثامناً: القدوة داخل الأسرة

تلعب القدوة داخل الأسرة دوراً لا يمكن تجاهله، إذ أن الطفل يتعلم من خلال المشاهدة والتقليد أكثر مما يتعلم من خلال التلقين. لذا، فإن التزام الوالدين بالقيم والمبادئ والسلوكيات الإيجابية يُعد أحد أنجع الوسائل التربوية في تقوية الدور الاجتماعي للأسرة. وتشمل جوانب القدوة:

• احترام الوالدين لبعضهما أمام الأبناء.

• الالتزام بالصدق والانضباط والعدل.

• تطبيق مبادئ التعاون وتحمل المسؤولية.

تاسعاً: غرس روح المشاركة المجتمعية

يجب أن تنفتح الأسرة على المجتمع المحيط بها، وأن تشارك في العمل التطوعي والمبادرات الاجتماعية، فذلك يزرع في الأبناء حب العطاء والانتماء ويعزز دور الأسرة كمكون فاعل في المجتمع. ويشمل ذلك:

• إشراك الأبناء في حملات نظافة الأحياء أو حملات التوعية.

• التعاون مع الجيران والمؤسسات في المشاريع الاجتماعية.

• تنمية روح الخدمة العامة داخل الأسرة.

عاشراً: تقييم مستمر للدور الأسري

من الضروري أن تخضع وظيفة الأسرة للتقييم الدوري من حيث مدى تحقق أهدافها التربوية والاجتماعية، ومدى استجابتها للتحديات المحيطة. ويمكن ذلك عبر:

• إجراء استطلاعات للرأي تقيس فاعلية البرامج الأسرية.

• تحليل الظواهر المجتمعية المرتبطة بضعف الأسرة، كالعنف والانحراف.

• دعم مراكز الدراسات التي تبحث في قضايا الأسرة.

خاتمة

تقوية الدور الاجتماعي للأسرة ليست مسؤولية فردية بل مشروع وطني يتطلب تكامل جهود الأفراد، والمؤسسات، والتشريعات، والإعلام. فالأسرة القوية هي التي تنشئ جيلاً واعياً، منتمياً، قادراً على التفاعل الإيجابي مع محيطه، متمسكاً بهويته، ومنفتحاً في ذات الوقت على معطيات العصر. ومن هنا، فإن تبني رؤية شاملة، واقعية، قابلة للتنفيذ، لتقوية هذا الدور، يُعد خطوة حاسمة في بناء مجتمع متماسك متطور، متين الأسس، ومفعم بالحيوية.

المراجع:

• المجلس العربي للطفولة والتنمية، “الأسرة في العالم العربي: قضايا وتحديات”، 2020.

• المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو)، “دور الأسرة في التربية على القيم في ظل العولمة”، 2018.